Wednesday, December 17, 2008

جرح لا يعرف الضماد

ما زلت أبحث عن دواء لهذا الجرح الراعف الذي يبدو أنه لن يُشفى ولن تزول تبعاته أبدًا، ومع حالة الملل والاكتئاب التي أعيشها، أجد نفسي مدفوعًا إلى طريقة واحدة لعلاجه، شبيهة بالمسكن الذي يُخفف الآلام ولو لدقائق معدودة ثم تزول آثاره ويبقى الجرح على حاله.
من جديد، عدت لأفكر في مهاجمة إنسان لا ذنب له إلا أنه برئ بكل ما تحمله الكلمة من معان، نعم، أريد الانتقام من إنسان لم أر شبيهًا له في العلم والخلق، أريد أن تبكيه كلماتي، ليدرك "حجم" فعلته التي اخترعتها "أنا".
الآن، أُنشّط ذاكرتي، واستدعي أحداثًا مختلفة، أحاول أن أتذكر كيف أصبت في المرة السابقة، وكيف نجحتُ في إبكاء هذا الـ"برئ"، وكيف سالت دموعه التي اسمّيها كما سمّاها صديقي الشاعر "دمع الرسل".
استنفذت كل طاقتي الذهنية دون جدوى، ذاكرتي تمنّعت، فوجئتُ بشئ غريب، أنني كلما حاولت تذكُر الطريقة التي آلمته بها، كلما ازداد حبي لهذا الشخص، وأدركت أن ذاكرتي محت – من نفسها – ما تريد وأبقت ما تريد، الآن أحاول أن أتذكر دموعه فلا تفارقني ابتسامته، أبحث عمّا كان يغضبه فلا أتذكر سوى ما يحب.
باءت كل محاولاتي بالفشل، زادت آلالام جرح قلبي، وأيقنت أنه لا ضماد.

Sunday, December 7, 2008

اجتلاء العيد .....

جاء يوم العيد، يوم الخروج من زمن إلى زمن وحده لا يستمر أكثر من يوم
زمن قصير ظريف ضاحك، تفرضه الأديان على الناس، ليكون لهم بين الحين والحين يوم طبيعي في هذه الحياة التي انتقلت عن طبيعتها.
يوم السلام والبشر والضحك والوفاء والإخاء وقول الإنسان للإنسان : " وأنتم بخير "
يوم الثياب الجديدة على الكل إشعارًا لهم بأن الوجه الإنساني جديد في هذا اليوم.
يوم الزينة التي لا يراد منها إلا إظهار أثرها على النفس ليكون الناس جميعًا في يوم حب.
يوم العيد، يوم تقديم الحلوى إلى كل فم لتحلو الكلمات فيه.
يوم تعم فيه الناس ألفاظ الدعاء والتهنئة مرتفعة بقوة إلهية فوق منازعات الحياة.
ذلك اليوم الذي ينظر فيه الإنسان إلى نفسه نظرة تلمح فيها السعادة، وإلى أهله نظرة تُبصر الاعتزاز، وإلى داره نظرة تدرك الجمال، وإلي الناس نظرة ترى الصداقة.
ومن كل هذه النظرات تستوي له النظرة الجميلة إلى الحياة والعالم، فتبتهج نفسه بالعالم والحياة.
وما أسماها نظرة تكشف للإنسان أن الكل جماله في الكل.
وخرجت أجتلي العيد في مظهره الحقيقي على هؤلاء الأطفال السعداء، على هذه الوجوه النضرة التي كبرت فيها ابتسامات الرضاع فصارت ضحكات، وهذه العيون الحالمة التي إذا بكت بكت بدموع لا ثقل لها.
وهذه الأفواه الصغيرة التي تنطق بأصوات لا تزال فيها نبرات الحنان من تقليد لغة الأم، وهذه الأجسام الغضة القريبة العهد بالضمات واللثمات فلا يزال حولها جو القلب.
على هؤلاء الأطفال السعداء الذين لا يعرفون للحياة قياسًا للزمن إلا بالسرور، وكل منهم مملكة في مملكة، وظرفهم هو أمرهم المملوكي.
هؤلاء المجتمعين في ثيابهم الجديدة المصبغة، اجتماع قوس قزح في ألوانه، ثياب عملت فيها المصانع والقلوب، فلا يتم جمالها إلا بأن يراها الأب والأم على أطفالهما.
ثياب جديدة يلبسونها فيكونون هم أنفسهم ثوبًا جديدًا على الدنيا.
هؤلاء السحرة الصغار الذين يخرجون لأنفسهم معني الكنز الثمين من قرشين.
ويسحرون العيد فإذا هو يوم صغير مثلهم جاء يدعوهم إلى اللعب، وينتبهون في هذا اليوم مع الفجر فيبقي على قلوبهم إلى غروب الشمس، ويلقون أنفسهم على العالم المنظور، فيبنون كل شيء على أحد المعنيين الثابتين في نفس الطفل: الحب الخالص، واللهو الخالص.
ويبتعدون بطبيعتهم عن أكاذيب الحياة، فيكون هذا بعينه هو قربهم من حقيقتها السعيدة.
هؤلاء الأطفال الذين هم السهولة قبل أن تتعقد، والذين يرون العالم في أول ما ينمو الخيال ويتجاوز ويمتد، يفتشون الأقدار من ظاهرها، ولا يستطيعون كي لا يتألموا بلا طائل، ويأخذون من الأشياء لأنفسهم فيفرحون بها ، ولا يأخذون من أنفسهم للأشياء كيلا يوجدوا بها الهم.

قانعون يكتفون بالتمرة، ولا يحاولون اقتلاع الشجرة التي تحملها
ويعرفون كنه الحقيقة، وهي أن العبرة بروح النعمة لا بمقدارها، فيجدون من الفرح في تغيير الثوب للجسم، أكثر مما يجده القائد الفاتح في تغيير ثوب المملكة.
هؤلاء الحكماء الذين يشبه كل واحد منهم آدم أول مجيئه إلى الدنيا، حين لم تكن بين الأرض والسماء خليقة ثالثة معقدة من صنع الإنسان المتحضر.
حكمتهم العليا : أن الفكر السامي هو جعل السرور فكرًا وإظهاره في العمل، وشعرهم البديع : أن الجمال والحب ليسا في شيء إلا في تجميل النفس وإظهارها عاشقة للفرح.

هؤلاء الفلاسفة الذين تقوم فلسفتهم على قاعدة علمية، وهي أن الأشياء الكثيرة لا تكثر في النفس المطمئنة، وبذلك تعيش النفس هادئة مستريحة كأن ليس في الدنيا إلا أشياؤها المُيسرة، أما النفوس المضطربة بأطماعها وشهواتها فهي التي تبتلى بهموم الكثرة الخيالية، ومثلها في الهم مثل طُفيلي مغفل يحزن لأنه لا يأكل في بطنين.
وإذا لم تكثر الأشياء الكثيرة في النفس كثرت السعادة ولو من قلة، فالطفل يُقلب عينيه في نساء كثيرات، ولكن أمه هي أجملهن وإن كانت شوهاء، فأمه وحدها هي أم قلبه، ثم لا معني للكثرة في هذا القلب.
هذا هو السر ، خذوه أيها الحكماء عن الطفل الصغير

وتأملت الأطفال وأثر العيد على نفوسهم التي وسعت من البشاشة فوق ملئها، فإذا لسان حالهم يقول للكبار: أيها البهائم اخلعي أرسانك ( ما يوضع على أنف الدابة )ولو يومًا .
أيها الناس انطلقوا في الدنيا انطلاق الأطفال يوجدون حقيقتهم البريئة الضاحكة
لا كما تصنعون إذ تنطلقون انطلاق الوحش يوجد حقيقته المفترسة.
أحرار، حرية نشاط الكون ينبعث كالفوضى، ولكن في أدق النواميس، يُثيرون السخط بالضجيج والحركة، فيكونون مع الناس على خلاف، لأنهم على وفاق مع الطبيعة.
وتحتدم بينهم المعارك ، ولكن لا تتحطم فيها إلا اللُعب
أما الكبار فيصنعون المدفع الضخم من الحديد، للجسم اللين من العظم.
أيتها البهائم، اخلعي أرسانك ولو يومًا

لا يفرح أطفال الدار كفرحهم بطفل يولد، فهم يستقبلونه كأنه محتاج إلى عقولهم الصغيرة، ويملؤهم الشعور بالفرح الحقيقي الكامن في سر الخلق، لقربهم من هذا السـر، وكذلك تحمل السنة ثم تلد الأطفال يوم العيد، فيستقبلونه كأنه مُحتاج إلى لهوهم الطبيعي.

ويملؤهم الشعور بالفرح الحقيقي الكامن في سر العالم لقلوبهم من هذا السر
فيا أسفًا علينا نحن الكبار، ما أبعدنا عن سر الخلق بآثام العمر
وما أبعدنا عن سر العالم بهذه الشهوات الكافرة التي لا تؤمن إلا بالمادة
يا أسفًا علينا نحن الكبار، ما أبعدنا عن حقيقة الفرح، تكاد آثامنا والله تجعل لنا في كل فرحة خجلة

أيتها الرياض المنورة بأزهارها
أيتها الطيور المغردة بألحانها
أيتها الأشجار المصفقة أغصانها
أيتها النجوم المتلألئة بالنور الدائم
أنتِ شتٌي، ولكنكِ جميعًا في هؤلاء الأطفال يوم العيد




من وحي القلم للرافعي